بسم الله الرحمن الرحيم

تعيين اليوم الأول للأرض من خلال قوله تعالى: (الرحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)

دراسة قرآنية فلكية معاصرة-

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:

فقد تكرر ذكر (العرش) وبيانه ووصفه كناية عن عرش الرحمن جل جلاله في القرآن الكريم في (21) موضعا، وذلك لمكانته العظيمة وأهميته الكبرى وذلك في صيغ مختلفة وأوصاف جليلة تليق بعظمته جل وعلا, منها (19) موضعا بلفظ (العرش) كقوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) النمل: ٢٦. وقوله تعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) المؤمنون: ١١٦. وفي لفظ (عرشه) في آية واحدة قوله تعالى: (وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) هود: 7. وبلفظ (عرش ربك) في آية آخرى واحدة فقط قوله تعالى: (وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة) الحاقة:17.

أما في العبارة التي نحن في صددها بخصوص الإستواء على هذا العرش العظيم والكريم في قوله تعالى: (ثُمَّ استَوى عَلَى العَرشِ) فقد وردت سبع مرات في القرآن الكريم، ستٌ منها بنفس هذه الصيغة والسابعة في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) طه:5  والتي لها نفس المعنى ولكن بأسلوب بلاغي قرآني مؤثر آخر لورود إسمه تعالى (الرحمن ) الذي هو من أسماء الذات في أولها, وكناية أن هذا العرش له جل وعلا.

ونذكر أدناه الآيات السبع موضوعة البحث والآيات التي تليها ذات الصلة بالمعنى الذي نقصده ونصبوا التوصل اليه  وذلك في قوله تعالى:

1.    (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) الأعراف: ٥٤

2.    (انَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جاَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ،إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) يونس: ٣ – ٦

3.    (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ , وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ, وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الرعد: ٢ – ٤

4.    الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَـنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا , وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَـنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَـنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا, تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا, وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا( الفرقان: ٥٩ – ٦٢

5.    (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ , يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ( السجدة: ٤ – ٧

6.    (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّـهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ،  يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) الحديد: ٤ – ٦

7.    (الرَّحمـنُ عَلَى العَرشِ استَوى  ,لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ وَما بَينَهُما وَما تَحتَ الثَّرى) طه: ٥ – ٦ وإذا تدبرنا هذه العبارة الكريمة موضوعة البحث (ثم استوى على العرش) وما جاء قبلها ومابعدها من الجمل في نفس الآية وفي الآيات التي بعدها ذات الصلة ودرسناها في سياق واحد في جميع المواقع السبعة التي وردت فيها حيث أن (القرآن يفسر بعضه بعضا) كما قال العلماء فإننا نستطيع أن نستنبط الكثير من المعاني الجديدة في تفسيرها المعاصر وفهم المقصود منها على ضوء معطيات العلم الحديث وحقائقه! وكما قال الإمام بدر الدين الزركشي في كتابه (البرهان في علوم القرآن): (من كان حظه من العلوم أكثر كان نصيبه من علم القرآن أكبر), فضلا عن صحة ماذكره المفسرون جزاهم الله خيرا قديما وحديثا في تفسيرها ماخلاصته كما جاء في كتاب زبدة التفسير من فتح القدير لمحمد سليمان الأشقر- ص201- قوله: ( والأستواء هو الإرتفاع والعلو على الشيء والإستقرار والله أعلم بكيفية ذلك بل على الوجه الذي يليق بجلاله تعالى والعرش هو سرير الملك. فعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قوله (استوى على العرش): الكيف غير معقول والإستواء غير مجهول والإقرار به إيمان والجحود به كفر. وعن مالك أن رجلا سأله كيف استوى على العرش! قال: الكيف غير معقول والإستواء غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)

ومن أهم المعاني والأستنباطات التي توصلنا اليها مايلي:

1.   أن هذه العبارة ( ثُمَّ استَوى عَلَى العَرشِ) ورد قبلها في خمس آيات قوله تعالى: (خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ في سِتَّةِ أَيّامٍ) أو (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وفي جميعها ورد بعدها ذكر خلق الليل والنهار (كناية عن الأرض) والقمر والنجوم وغيرها من المخلوقات في إشارة واضحة الى ظهور الشكل النهائي للكون وولادة اليوم الأرضي (الليل والنهار). بينما لم يرد ذكر هذه الأشياء جميعا أو حتى قسم منها في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ في سِتَّةِ أَيّامٍ وَكانَ عَرشُهُ عَلَى الماءِ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلًا وَلَئِن قُلتَ إِنَّكُم مَبعوثونَ مِن بَعدِ المَوتِ لَيَقولَنَّ الَّذينَ كَفَروا إِن هـذا إِلّا سِحرٌ مُبينٌ) هود: ٧. ففي قوله تعالى: (وَكانَ عَرشُهُ عَلَى الماءِ) أي كان عرشه قبل خلقهما (السماوات والأرض) على الماء ,(كما قال المفسرون) حيث لم يكن هناك من سموات وأرضين وإنسٍ وجان وغيرها من المخلوقات ما عدا الماء، لذلك لم يكن هناك استواء من قبله عزوجل لإصدار أوامره لتنظيم شؤونها لأنها لم تخلق بعد ولم يرد أي ذكر لها بعدها في الآيات التي تلتها كما هو الحال في الآيات السبع موضوعة البحث والتي ذكرت هذه المخلوقات في إشارة الى بدء الكون في ظهوره في شكله الطبيعي الحالي وبدأت المجموعة الشمسية بالعمل فتشكل الليل والنهار وبدأ اليوم الأرضي في الحساب الفلكي وتهيأت الأرض لإستقبال المخلوق الجديد الإنسان الذي كرمه الله متمثلا بسيدنا آدم عليه السلام الذي علمه الاسماء كلها .قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة: ٢٩   .

وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فإن معنى كلمة (استوى) التي وردت في هذه الآية هو (قَصَد) حيث أن هذه الكلمة { اسْتَوَى } كما قال المفسرون ترد في القرآن على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدى بالحرف، فيكون معناها, الكمال والتمام, كما في قوله عن موسى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } وتارة تكون بمعنى علا و ارتفع  وذلك إذا عديت بـ " على " كما في قوله تعالى: ( ثم استوى على العرش) كما جاء أعلاه وتارة تكون بمعنى ( قصد ) كما إذا عديت بـ ( إلى) كما في هذه الآية، أي: لما خلق تعالى الأرض, قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فخلقها وأحكمها, وأتقنها.

يقول الدكتور محمد باسل الطائي في كتابه ( صيرورة الكون: مدارج العلم ومعارج الإيمان ) في صفحة  62 في تفسيره العلمي لقوله تعالى (وَكانَ عَرشُهُ عَلَى الماءِ) :

( إن هذا الحفظ الرباني المقصود للأرض يستهدف إدامة الحياة عليها إلى أجل مسمى . وهذا كله لأن الحياة هي ما قام عليه عرش الرحمن. وهذا ما  نفهمه من قوله تعالى (وَكانَ عَرشُهُ عَلَى الماءِ) . كما قال جل شأنه ( وَجَعلنا مِن الماءِ كُلّ شيءٍ حَي) الأنبياء:30 . فالماء عماد الحياة وعلى الحياة كان عرش الرحمن . هنا أيضا يتوجب أن يتوسع عقلنا لكي يفهم المراد الإلهي من هذه الآيات الكريمة. فالعرش معنى مقصود به الوسيلة والعماد، وإلا فإن المعنى اللغوي الحرفي لا يقود إلى شيء. فالعرش في اللغة " أصل صحيح يدل على إرتفاع في شيء مبني، ثم يستعار في غير ذلك... قال الخليل: العرش: سرير الملك." وما كان الله ــ سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا ــ ليكون على سرير لأنه غير محدود بمكان. لذلك فإن العقل السليم ينظر إلى هذه الآيات بمدلولات معانيها المجازية. وقولنا أن الحياة هي عرش الرحمن أمر مقبول يتوافق تماما مع ما جاء في جميع آي القران التي وردت فيها كلمة عرش، ما خلا تلك الآيات التي تختص بعرش يوسف وعرش بلقيس. فضلاً أن هذا الفهم يتناسب مع حقيقة أن الله تعالى لَيسَ كَمِثلِه شيء وَهُو السَّميعُ البَصير) .

إن خلق السماوات والأرضين وما بينهما ومابث فيهما من دابة (مخلوقات عاقلة وغير عاقلة) ومن نبات وحيوان وجماد ونجوم وكواكب ومجرات وغيرها ,  هي جميعا تحتاج الى قوانين ونواميس في خلقها وتسييرها وتنظيم شؤونها وبدقة على وفق إرادته وأوامره سبحانه وتعالى التي تصدر من العرش الذي إستوى عليه (مصدر القيادة الربانية العليا ) وبدأت هذه الأوامر تصدر منه لتستلمها الملائكة من هذا المقام المجيد  و الرفيع الذي يليق بجلاله وعظمته وتعيد الى هذا المقام العظيم (العرش الكريم) تقاريرها في تسيير هذه الأوامر وتنفيذها وتوثيقها خاصة بما يتعلق بعالم الإنس والجن اللذين سيحاسبان عن أعمالهما. ومعنى الاستواء هنا والله أعلم فرض السلطة المتكاملة . أي أن الله تعالى بعد ان خلق الكون (السماوات والأرض وما فيهما وما عليهما) بسط عليه قوانينه التي يدبر بها هذا الكون وليست الملائكة  الا وسيلة لتنفيذ هذه القوانين والأوامر . فقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) و(ثم استوى على العرش) اشارة والله أعلم الى البدء في اصدار أوامره لترتيب أمور مخلوقاته في الكون كافة والى يوم القيامة وذلك من خلال ملائكته المنفذين بدقة وطاعة كاملة لأوامره (كلماته).

 

2.   إن هذه الكلمات الربانية من الخالق عزوجل لاحصر ولا عد لها ولايمكن إحصاؤها ولا تنفد!! وهي والله اعلم المقصود بها بالأوامر والتعليمات (كلمات الله ) و (كلمات ربي ) التي ذكرها الله تعالى في قوله عزوجل :

·                   (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لقمان: ٢٧

·                   (قُل لَو كانَ البَحرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبّي لَنَفِدَ البَحرُ قَبلَ أَن تَنفَدَ كَلِماتُ رَبّي وَلَو جِئنا بِمِثلِهِ مَدَدًا) الكهف: ١٠٩

وهذه الكلمات والله اعلم كما ذكرنا هي الأوامر والتعليمات التي تسير الكون ومن فيه من مخلوقات من الذرة ومادونها وصغر منها الى المجرة وما علاها وكبر عنها والتي لايمكن إحصاؤها لكثرتها لذلك نستطيع أن نفهم من خلال ذلك معنى الآيتين المذكورتين أعلاه ويستفاد منهما ان كلماته وأوامره عزوجل من الكثرة بحيث لا تضبطها ولاتستوعبها الأقلام ومدادها ولو كانت كل اشجار الدنيا أقلاما وماء بحارها مدادا (حبرا) لكتابتها! فسبحان الله رب العرش العظيم.

 

3.   ومما يؤيد ما ذهبنا اليه في تفسيرنا أعلاه أن جميع الآيات السبع موضوعة البحث التي ورد فيها قوله تعالى: ( الرحمن على العرش استوى) و (ثم استوى على العرش) تلتها في نفس الآية أو في الآيات التي بعدها مباشرة أو بعد آية واحدة إشارات واضحة إلى تدبير الأمر بعد الخلق وإحكامه في قوله تعالى: (أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ تَبارَكَ اللَّـهُ رَبُّ العالَمينَ) الأعراف:  ٥٤.وقوله تعالى: (يُدَبِّرُ الأَمرَ ما مِن شَفيعٍ إِلّا مِن بَعدِ إِذنِهِ ذلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُم فَاعبُدوهُ أَفَلا تَذَكَّرونَ) يونس3  وقوله تعالى : (دَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) السجدة :5 وغيرها, في إشارة كما ذكرنا إلى بدء ظهور الكون ومايحويه من مخلوقات عاقلة وغير عاقلة وغيرها تحتاج الى رعاية ربانية مستمرة ودائمية من الذي أوجدها وخلقها في قوله تعالى: (اللَّـهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ، لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّـهِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) الزمر: ٦٢ – ٦٣  . وإن الملائكة تقوم بواجباتها المكلفة بها حسب الأوامر (الكلمات) التي صدرت اليها من مركز القيادة الربانية العليا (العرش العظيم) لإدارة شؤون هذه المخلوقات جميعا إلى ان يرث الله السماوات والأرضين السبع وما عليها ومابينها!

4.   ومما يؤيد ما ذكرناه في الفقرة السابقة والذي يصب أيضا في تفسيرنا المعاصر لقوله تعالى (ثم استوى على العرش) : أن الملائكة جميعا بعد قيام الساعة وانتهاء الحساب ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وفناء جميع المخلوقات كما قال تعالى: (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) الرحمن: 26-27. ففي ذلك الحين لا يبقى للملائكة دور تنفيذي لتسيير أمور المخلوقات التي انتهت وفنت ! فتعود بأمر ربها إلى خالقها ومركز قيادتها (العرش) وتحف حول العرش العظيم وهي تلهج بالتسبيح للخالق جل جلاله وهذا التسبيح هو غذاؤها الذي فطرت عليه وتعيش وتحيا به ولم يبق لها دور أو عمل الا ذلك وفي انتظار مصيرها قال تعالى: ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) الزمر :75.

 ويا له من موقف رهيب وعظيم تعجز العبارات والكلمات عن وصفه !! قال تعالى: ( وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع الا همسا) طه :108.

5.   وفي التكرار السباعي للآية موضوعة البحث فإن فيها إشارة توافقية والله اعلم الى خلق السماوات والأرضين السبع ايضاً. قال تعالى : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) الطلاق:12. حيث يظهر التناسق والتطابق العددي بينهما ! وهذا من معجزات وبلاغة القرآن الكريم في كون كلام الله يطابق خلقه. فهما متناسقان ويفسر احدهما الآخر فالذي أنزل القرآن هو الذي خلق الكون والانسان قال تعالى: (أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ). ونلاحظ في الآية السابقة من سورة الطلاق قوله تعالى (يتنزل الامر بينهن ) حيث أن هذه الاوامر تتنزل من عرش الرحمن جلّ جلاله وعظم شأنه وفي ذلك اشارة اخرى الى التفسير الذي ذكرناه حيث أن السياق يدل على الاتفاق كما قرر ذلك المفسرون.

6.   ومن منطلق مفهومنا لقوله تعالى (ثم استوى على العرش) في أنه إشارة الى ولادة الكون بصورته الطبيعية وتوسعه بعد نظرية الانفجار الكبير الذي حدث كما يقدر علماء الكون قبل 13.75 مليار (بليون) سنة, وكما يقدر علماء الكون والفلك حسب دراساتهم فإن الكون المرئي ولد بعد هذا الإنفجار الكبير وتحول الى اشلاء من المادة والطاقة ثم تشكلت الذرات والجزيئات وبعدها السدم الغازية والترابية والدخانية ومن ثم مختلف أنواع المجرات التي تتألف من أكثر من مليار حشد مجري (وكل حشد مجري يحتوي على مائة مجرة كمعدل) وكل مجرة تحتوي على 100-200 مليار نجم  (ومن ضمنها مجرتنا درب التبانة) وداخل كل مجرة مختلف أنواع النجوم التي ولدت و ماتزال تولد من هذه السدم، ومن ضمنها مجموعتنا الشمسية (الشمس وأجرامها السماوية من كواكب وأقمار...الخ) التي ولدت قبل 5000 مليون سنة  وتحولت إلى كرة تدور حول نفسها بسبب قوة الجذب بين جسيمات السديم وكونت الشمس الأولية في الوسط تقريبا أما باقي مادة السديم فبسبب الدوران شكلت قرصا حول الشمس الاولية ومن هذا القرص ولدت ونشأت الكواكب بتراكم المادة في مناطق ومدارات مختلفة حول الشمس ومن ضمن هذه الكواكب كوكبنا  الأرض  الذي تكونت قبل 4500 مليون سنة، وبدء دورانها بعد اكتمال خلقها حول الشمس وكذلك حول نفسها لتشكل اليوم الأرضي (الليل والنهار). أما القمر فإن الدراسات الفلكية تقول أنه تكون بعد ولادة الأرض بمدة طويلة  ومن اشلاء الجرم السماوي الذي اصطدم بالأرض ومن اشلائها أيضا تكون القمر قبل حوالي  3500 مليون سنة (والله أعلم) وكذلك في اكتمال خلق القمر ودورانه حول أمه الارض تم تشكيل الاشهر القمرية الاثنى عشر شهراً .

7.   يمكننا من خلال ذلك استنباط او معرفة اليوم الاول والشهر الاول الذي بدأ فيه هذا الدوران او التشكيل وحسابه وذلك من قوله عزوجل: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِندَ اللَّـهِ اثنا عَشَرَ شَهرًا في كِتابِ اللَّـهِ يَومَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ مِنها أَربَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ فَلا تَظلِموا فيهِنَّ أَنفُسَكُم وَقاتِلُوا المُشرِكينَ كافَّةً كَما يُقاتِلونَكُم كافَّةً وَاعلَموا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ المُتَّقينَ ) التوبة:36.

ولمعرفة وبيان ذلك اليوم فأن الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم قد ذكره في خطبة حجة الوداع في يوم الجمعة التاسع من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة عندما ذكر ذلك اليوم من جملة ماذكره في خطبته العظيمة في ذلك اليوم العظيم قائلاً :

(وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان – ألا هل بلغت اللهم فاشهد) . متفق عليه

وقد جاء في شرح هذه المقولة للمصطفى صلى الله عليه وسلم على موقع إسلام ويب في الشبكة العنكبوتية (مركز الفتوى برقم 98509 ) مايلي :

( قال في عون المعبود شرح سنن أبي داود عند شرح هذا الحديث:  (إن الزمان قد استدار كهيئته).. أي دار على الترتيب الذي اختاره الله تعالى ووضعه يوم خلق السماوات والأرض وهو أن يكون كل عام اثني عشر شهراً وكل شهر ما بين تسعة وعشرين إلى ثلاثين يوماً، وكانت العرب في جاهليتهم غيروا ذلك فجعلوا عاماً اثني عشر شهراً وعاماً ثلاثة عشر فإنهم كانوا ينسئون الحج في كل عامين من شهر إلى شهر آخر بعده ويجعلون الشهر الذي أنسؤوه ملغى فتصير تلك السنة ثلاثة عشر وتتبدل أشهرها فيحلون الأشهر الحرم ويحرمون غيره، فأبطل الله تعالى ذلك وقرره على مداره الأصلي، فالسنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع هي السنة التي وصل ذو الحجة إلى موضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الزمان قد استدار يعني أمر الله تعالى أن يكون ذو الحجة في هذا الوقت فاحفظوه واجعلوا الحج في هذا الوقت ولا تبدلوا شهراً بشهر كعادة أهل الجاهلية). انتهى.

وإننا نستنبط من ذلك وكما توصل اليه أيضا الدكتور محمد نايف الدليمي في بحثه الموسوم (النسيئ بين الجاهلية والإسلام) قائلا في ص145: ( أن هذا اليوم التاسع من ذي الحجة من سنة عشرة للهجرة لم يكن يوماً اعتياديا من أيام الله سبحانه وتعالى فوقوف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم في عرفة هو اليوم الذي عاد الزمان فيه الى الخلق الاول للسموات والارض ) فهو اليوم الذي بدأ فيه الحساب الفلكي لليوم والشهر الارضيين. لأن استدارة الزمن حساب على حركة القمر ونزوله بمنازله المعروفة وهذه الحركة بدأت من أول يوم تم فيه إكتمال خلق السموات والارض وهو وقت بعيد جدا غير معروف في الوقت الحاضر وقد يتوصل اليه علماء الكون في تخصصاتهم المختلفة (الفلكية والجيولوجية والفيزيائية وغيرها) من خلال هذه الاشارات القرآنية والحديث النبوي الشريف اعلاه ,التي تعتبر فتحاً علمياً مستنبط منهما  (لقوم يعلمون)  كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يونس:5

إن هذه المقولة من الرسول صلى الله عليه وسلم (وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) معجزة كبيرة جدا وحدث عظيم لايقدر عليه أحد ولم تكن من عنده عليه افضل الصلاة والسلام وهو النبي الامي الذي لا يعرف القراءة والكتابة ولم يقعد ليحسب السنين في عصر لم تبلغ فيه العلوم ومنها الفلكية ما وصلت عليه الآن, وانما هي تنزيل و وحي من الله جل في علاه القائل: (تَنزيلًا مِمَّن خَلَقَ الأَرضَ وَالسَّماواتِ العُلَى، الرَّحمـنُ عَلَى العَرشِ استَوى ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ وَما بَينَهُما وَما تَحتَ الثَّرى) طه: 4 – 6    صدق الله العظيم والله اعلم بمراده.

والحمد لله رب العالمين

الدكتور محمد جميل الحبال

مستشفى الملك فهد التخصصي –الدمام

المملكة العربية السعودية

الخميس 12 شوال 1433هـ  الموافق 30 -8-2012م

E-mail: alhabbal45@yahoo.com

المصادر:

1.    محمد سليمان عبدالله الأشقر: زبدة التفسير من فتح القدير، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الكويت (بدون سنة)

2.    محمد باسل الطائي: صيرورة الكون : مدارج العلم ومعارج الإيمان – عالم الكتب الحديث – اربد (الاردن) 2010 .

3.    محمد نايف الدليمي: النسيئ بين الجاهلية والإسلام- مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية, ص149-134 , العدد 22  كانون ألأول/ديسمبر 2011 دبي- دولةالإمارات العربية المتحدة